لحظة عشق
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
لحظة عشق
"اللّه هو الحبّ " سمع جدّته تردّد هذه الجملة كثيراً. "الحبّ هو اللّه" قال رجل الطّائفة الدّينيّة التّي ينتمي إليها، برم شفتيه، ثمّ ابتسم باستخفاف، فهو لم يكن يؤمن لا باللّه ولا بالحبّ، كفر بهما؛ لأنّه لا يؤمن إلاّ بما يُلمس ويُشمّ ويُذاق، أمّا ما وراء ذلك فهو بالتّصديق به ضنينٌ، فهو مؤمن فقط بالملموسات والحقائق والنّظريّات العلميّة، لذا قليلاً ما بالى بالمشاعر والأحاسيس واللّحظات الجيّاشة، وكتب في أوّل كتبه في الإلحاد، وهو كتاب لاقى ضجّة عالميّة كبيرة (أين هما اللّه والحبّ؟) حتّى عندما زحف المرض إلى قرنيّتي عينيه، والتهمهما دون رحمة، تابع القضيّة على أنّها قضيّة علميّة بحتة، قرأ التّقارير، وراجع الأطبّاء، وبدأ يهيّئ التّرتيبات الجديدة لحياته المظلمة القادمة، وجاء العمى، جاء بارداً رتيباً، لا مبالياً بعجزه وتأوّبهاته وبغضبه، وساد الظّلام، أحسّ لأوّل مرّة بأنّه وحيد، تمنّى أن تمتدّ له يد من الظّلام، يد دافئة تذيب صقيع العمى، أرادها يداً سماويّة جبّارة، كاد يتضرّع لقوّة عظمى اسمها اللّه، لكن من جديد تبدّدت هذه القوّة في نفسه، ولم تستطع مداركه المغلقة دونها أن تمتصّها، وأن تذيبها في كيانه.
وغدت الحياة رتيبة مظلمة ليس فيها إلاّ أصواتٌ لا تمتّ إلى ذاته بشيء، حاول جاهداً أن يقهر نفسه لتتعامل مع العمى على أنّه حالة خاصّة تحتاج لتدبيرات قاسية، لكنّه كان على خجل واستحياء وحيطة يتّصل بطبيبه ليسأل عن العمليّة التّي يترقبّها، فيجيب الطّبيب الإجابة التّي ألفها، وبات يأمل في كلّ مرّة أن لا يسمعها، يقول بصوتٍ وجلٍ هادئ: "لم يظهر مُتبرّعٌ بعد؟"
وجاءت اللّحظة، جاءت حارّة مثيرة بألوان زاهية، ولكنّها في طبق أسود مجلّل بالموت، فقد انتحرت شابّة صغيرة، وتركت في رسالة انتحارها أنّها تتبرّع بقرنيتيّها للمستشفى الذّي يقبع اسمه على رأس قائمة انتظاره للتّبرع.
وبعد عمليّة مألوفة وطويلة، عاد النّور إلى عينيه، وهما تحتضنان قرنيّتي شابّة أسرها الموت منذ أيّام، عادت الأشياء بألوانها وبريقها، وحملتْ بعودتها صورةً لا تفارق ذهنه، صورةً لفتاة سمراء صغيرة الجسد، كسيفة الوجه، هادئة الملامح، كانت صورتها تلحّ على مخيّلته دون رحمة، وتظهر أمام عينيه في كلّ الأماكن، وفي كثير من الأوقات، دون أن تسعفه الذّاكرة ليتذكّر أين رآها، في البداية كان ينزعج من هذه الصّورة التّي تغشي عينيه، راجع طبيبه، الذّي قال له إنّ لا سبب طبّياً يُفسّر ما يرى، وإنّ عليه مراجعة طبيب نفسيّ، لكنّه ضرب صفحاً عن نصيحة طبيبه، وبات دون أن يقصد يألف السّمراء التّي تنزل في نور عينيه.
أشعّة الشّمس داعبت سمراء عينيه عندما دلفت سكرتيرته إلى مكتبه الفاره، وقالت له: "لا تنسَ يا أستاذ حكيم موعد اليوم."
تنبّه إلى جملة السّكرتيرة بلا مبالاة ،وقال: "أيّ موعد؟"
قالت السّكرتيرة ،وهي تراجع أجندة المواعيد: "اليوم السّاعة الرّابعة مساءً قد حدّدت لكَ موعداً حسب طلبك لزيارة والدة الشّابّة التّي تبرّعت لك بقرنيّتيها."
قال دون تحمّس: "نعم تذكّرت، هل جهّزت الزّهور التّي طلبتها لهذه الزّيارة."
- "نعم سيّدي . . . والسّائق في انتظارك كذلك."
أرادها زيارة قصيرة وسريعة، لكنّه شعر بروح غريبة تستحوذ على إرادته وحواسّه وهو يجلس في غرفة الشّابّة المنتحرة، كانت غرفة هادئة، يغلب اللّون الوردي على محتوياتها، جلس على كرسيّ مكتبها، كانت رسالة انتحارها ما تزال على المكتب، جلست والدتها المكسورة بأحزانها على طرف سريرها المرتّب إلى جانب طاقة الزّهور التّي جاءت مع الضيف الملحد، قالت الأمّ كاسفة دامعة: "كانت رقيقة كبسمة، كلّها حياة وحبّ وتفاؤل، كانت مصدر سعادتي واعتزازي، لا أعرف لمَ انتحرت، كنت أنتظر منها الكثير من السعادة والعطاء."
حار فيما عليه أن يقول في هذه اللّحظة، أيشكرها ؛لأنّها وهبته قرنيّتي ابنتها؟ أم يغادر دون أن يلوي على شيء؟ صوت الأمّ قطع عليه تفكيره عندما قالت: "لقد وُلدتْ بقلبٍ مريض، كانت تعرف أنّها ستموت في لحظةٍ ما، سيتوقّف قلبها في أيّ لحظة؛ لأنّه أضعف من أن يستمرّ، لكن لماذا استعجلت اللّحظة؟ لماذا ؟ "
واستغرقت الأمّ في انتحابها، انتقل حكيم من مكانه إلى جانبها على السّرير، وأخذ يكفكف دموعها، من جديد عادت صورة السّمراء في عينيه، جحظت عيناه، وتسمّر مكانه، كانت عيناه مسلّطتين على صورة فوتوغرافيّة إلى جانب سرير المنتحرة، تناول الصّورة، وبيدين متعرّقتين ومرتعشتين وقال: "من هذه السّمراء؟"
قالت الأمّ وهي تضمّد بمندلها الورقيّ سيل مخاطها المختلط بالدّموع: "هذه هبة . . .ابنتي المنتحرة." لقد كانت هي ، نعم، كانت هي السّمراء ذاتها التّي لا تفارق صورتها عينيه،
صمتْ بعمق، غادرت الأمّ الغرفة التّي بقي فيها بعد أن استأذن بذلك، تعرّف على كلّ محتوياتها، كان في درج مكتبها الكثير من الرّسائل المعنونة بعنوانه، التّي لم تبعث أبداً، قرأها مرّة، وثلاث، وعشر، كان فيها حبّ كبير، عرف من أوراقها ومن دفتر مذكّراتها أنّها عملت معه لعام كامل في نفس المؤسّسة الصّحفيّة التّي يعمل فيها، دون أن تكلّمه، ولكنّ كلّ كتبه ومقالاته كانت في مكتبها، عرف أنّها أحبّته، وعرف أنّها صمتت بقلبها المريض، الذي لا يتحمّل الانكسار، وتأكّد من ملفّاتها أنّها كانت تتابع حالته الصّحيّة، وأنّها تعرف أنّ أنسجتها تناسب أنسجته من التّحاليل المرافقة بوثيقة حالته الصّحيّة، وأنّها كانت تعرف أنّ الدّور له على لائحة الانتظار لأخذ القرنيّتين، وفي اللّيلة المناسبة انتحرت . . .
قرأ رسالة انتحارها، استطاع أن يفكّ كلّ طلاسمها، وعرف تماماً من تعني بجملة كتبتها في آخر رسالتها، قالت فيها: "عندما تنعم عيناك بالنّور، تأكّد أنّك نعمت دائماً بحبّي، أنا متأكّدة من أنّك ستقرأ هذه الرّسالة يوماً ما، وستعرف كم أحببتك . . ."
على مكتبها رأى نسخةً من كتابه المشهور، فتح الصّفحة الأولى، كان مكتوباً تحت العنوان تماماً ،وبخطّ نسائيّ رقيق: "اللّه هنا في قلبي". تناول قلمه الفاخر، وكتب في الصفحة ذاتها أعلى الكلمات التّي قرأ "إلى حبيبتي هبة . . . عاشقك إلى الأبد حكيم."
أقفل الكتاب، وأسند ظهره إلى الكرسيّ الخشبيّ الذّي يجلس عليه، دفن رأسه الأشيب ذا الشعر المتموّج بين يديه، وشعر لأوّل مرّة بأنّ اللّه والحبّ يسكنان قلبه، قاوم رغبة جارفة في البكاء، ثمّ استسلم لها دون خجل، وضمّ صورة هبة إلى قلبه الذّي بدأ يدقّ بانفعال وقوّة.
.د.سناء شعلان "روائية اردنية "
وغدت الحياة رتيبة مظلمة ليس فيها إلاّ أصواتٌ لا تمتّ إلى ذاته بشيء، حاول جاهداً أن يقهر نفسه لتتعامل مع العمى على أنّه حالة خاصّة تحتاج لتدبيرات قاسية، لكنّه كان على خجل واستحياء وحيطة يتّصل بطبيبه ليسأل عن العمليّة التّي يترقبّها، فيجيب الطّبيب الإجابة التّي ألفها، وبات يأمل في كلّ مرّة أن لا يسمعها، يقول بصوتٍ وجلٍ هادئ: "لم يظهر مُتبرّعٌ بعد؟"
وجاءت اللّحظة، جاءت حارّة مثيرة بألوان زاهية، ولكنّها في طبق أسود مجلّل بالموت، فقد انتحرت شابّة صغيرة، وتركت في رسالة انتحارها أنّها تتبرّع بقرنيتيّها للمستشفى الذّي يقبع اسمه على رأس قائمة انتظاره للتّبرع.
وبعد عمليّة مألوفة وطويلة، عاد النّور إلى عينيه، وهما تحتضنان قرنيّتي شابّة أسرها الموت منذ أيّام، عادت الأشياء بألوانها وبريقها، وحملتْ بعودتها صورةً لا تفارق ذهنه، صورةً لفتاة سمراء صغيرة الجسد، كسيفة الوجه، هادئة الملامح، كانت صورتها تلحّ على مخيّلته دون رحمة، وتظهر أمام عينيه في كلّ الأماكن، وفي كثير من الأوقات، دون أن تسعفه الذّاكرة ليتذكّر أين رآها، في البداية كان ينزعج من هذه الصّورة التّي تغشي عينيه، راجع طبيبه، الذّي قال له إنّ لا سبب طبّياً يُفسّر ما يرى، وإنّ عليه مراجعة طبيب نفسيّ، لكنّه ضرب صفحاً عن نصيحة طبيبه، وبات دون أن يقصد يألف السّمراء التّي تنزل في نور عينيه.
أشعّة الشّمس داعبت سمراء عينيه عندما دلفت سكرتيرته إلى مكتبه الفاره، وقالت له: "لا تنسَ يا أستاذ حكيم موعد اليوم."
تنبّه إلى جملة السّكرتيرة بلا مبالاة ،وقال: "أيّ موعد؟"
قالت السّكرتيرة ،وهي تراجع أجندة المواعيد: "اليوم السّاعة الرّابعة مساءً قد حدّدت لكَ موعداً حسب طلبك لزيارة والدة الشّابّة التّي تبرّعت لك بقرنيّتيها."
قال دون تحمّس: "نعم تذكّرت، هل جهّزت الزّهور التّي طلبتها لهذه الزّيارة."
- "نعم سيّدي . . . والسّائق في انتظارك كذلك."
أرادها زيارة قصيرة وسريعة، لكنّه شعر بروح غريبة تستحوذ على إرادته وحواسّه وهو يجلس في غرفة الشّابّة المنتحرة، كانت غرفة هادئة، يغلب اللّون الوردي على محتوياتها، جلس على كرسيّ مكتبها، كانت رسالة انتحارها ما تزال على المكتب، جلست والدتها المكسورة بأحزانها على طرف سريرها المرتّب إلى جانب طاقة الزّهور التّي جاءت مع الضيف الملحد، قالت الأمّ كاسفة دامعة: "كانت رقيقة كبسمة، كلّها حياة وحبّ وتفاؤل، كانت مصدر سعادتي واعتزازي، لا أعرف لمَ انتحرت، كنت أنتظر منها الكثير من السعادة والعطاء."
حار فيما عليه أن يقول في هذه اللّحظة، أيشكرها ؛لأنّها وهبته قرنيّتي ابنتها؟ أم يغادر دون أن يلوي على شيء؟ صوت الأمّ قطع عليه تفكيره عندما قالت: "لقد وُلدتْ بقلبٍ مريض، كانت تعرف أنّها ستموت في لحظةٍ ما، سيتوقّف قلبها في أيّ لحظة؛ لأنّه أضعف من أن يستمرّ، لكن لماذا استعجلت اللّحظة؟ لماذا ؟ "
واستغرقت الأمّ في انتحابها، انتقل حكيم من مكانه إلى جانبها على السّرير، وأخذ يكفكف دموعها، من جديد عادت صورة السّمراء في عينيه، جحظت عيناه، وتسمّر مكانه، كانت عيناه مسلّطتين على صورة فوتوغرافيّة إلى جانب سرير المنتحرة، تناول الصّورة، وبيدين متعرّقتين ومرتعشتين وقال: "من هذه السّمراء؟"
قالت الأمّ وهي تضمّد بمندلها الورقيّ سيل مخاطها المختلط بالدّموع: "هذه هبة . . .ابنتي المنتحرة." لقد كانت هي ، نعم، كانت هي السّمراء ذاتها التّي لا تفارق صورتها عينيه،
صمتْ بعمق، غادرت الأمّ الغرفة التّي بقي فيها بعد أن استأذن بذلك، تعرّف على كلّ محتوياتها، كان في درج مكتبها الكثير من الرّسائل المعنونة بعنوانه، التّي لم تبعث أبداً، قرأها مرّة، وثلاث، وعشر، كان فيها حبّ كبير، عرف من أوراقها ومن دفتر مذكّراتها أنّها عملت معه لعام كامل في نفس المؤسّسة الصّحفيّة التّي يعمل فيها، دون أن تكلّمه، ولكنّ كلّ كتبه ومقالاته كانت في مكتبها، عرف أنّها أحبّته، وعرف أنّها صمتت بقلبها المريض، الذي لا يتحمّل الانكسار، وتأكّد من ملفّاتها أنّها كانت تتابع حالته الصّحيّة، وأنّها تعرف أنّ أنسجتها تناسب أنسجته من التّحاليل المرافقة بوثيقة حالته الصّحيّة، وأنّها كانت تعرف أنّ الدّور له على لائحة الانتظار لأخذ القرنيّتين، وفي اللّيلة المناسبة انتحرت . . .
قرأ رسالة انتحارها، استطاع أن يفكّ كلّ طلاسمها، وعرف تماماً من تعني بجملة كتبتها في آخر رسالتها، قالت فيها: "عندما تنعم عيناك بالنّور، تأكّد أنّك نعمت دائماً بحبّي، أنا متأكّدة من أنّك ستقرأ هذه الرّسالة يوماً ما، وستعرف كم أحببتك . . ."
على مكتبها رأى نسخةً من كتابه المشهور، فتح الصّفحة الأولى، كان مكتوباً تحت العنوان تماماً ،وبخطّ نسائيّ رقيق: "اللّه هنا في قلبي". تناول قلمه الفاخر، وكتب في الصفحة ذاتها أعلى الكلمات التّي قرأ "إلى حبيبتي هبة . . . عاشقك إلى الأبد حكيم."
أقفل الكتاب، وأسند ظهره إلى الكرسيّ الخشبيّ الذّي يجلس عليه، دفن رأسه الأشيب ذا الشعر المتموّج بين يديه، وشعر لأوّل مرّة بأنّ اللّه والحبّ يسكنان قلبه، قاوم رغبة جارفة في البكاء، ثمّ استسلم لها دون خجل، وضمّ صورة هبة إلى قلبه الذّي بدأ يدقّ بانفعال وقوّة.
.د.سناء شعلان "روائية اردنية "
امامة ابراهيم- مبتدئ
- عدد الرسائل : 51
العمر : 36
السٌّمعَة : 1
نقاط : 7046
تاريخ التسجيل : 22/06/2008
رد: لحظة عشق
قصة رائعة وموضوع رائع ..شِكرا امامة
همس الربيع- نشيط جداً
- عدد الرسائل : 322
العمر : 32
السٌّمعَة : 1
نقاط : 6120
تاريخ التسجيل : 28/03/2008
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى